samedi 7 janvier 2017

الهندسة التّاريخيّة أوالمقاربة العلميّة للتّاريخ عبر أربع رسوم بيانيّة

الهندسة التّاريخيّة
أوالمقاربة العلميّة للإنسانيّات عبرأربع رسوم بيانيّة

________
                                                                           الأستاذ :مختار العيّاشي
                                                                                                                                     كليّة الآداب والفنون والإنسانيّات
                                                                                                                                               جامعة منوبة

*       تعريف التّاريخ :
يعرّف Lucien Febvre و Marc Bloch  (وهما مؤسّسان لمدرسة الحوليّات) علم التاريخ بأنّه فيزياء اجتماعية تدرس الجسد الاجتماعي عبر الزّمن والمجال. فهو دراسة شاملة وعقلانيّة للمجتمعات في بعدها الزّمني والجغرافي. إنّه علم المقارنات متشعّب الدّراسات مختلف الرّوافد يهتمّ بكلّ ظاهرة تمسّ ماضي المجتمعات، سواء كانت هذه الظّاهرة سياسيّة أو اقتصاديّة أو بشريّة أو ثقافيّة أو حضاريّة. غير أنّ هذا البعد العقلاني والشامل الذي تختصّ به الدّراسات التاريخيّة المعاصرة، لم يكن دائما يلازم اهتمامات المؤرّخين، ذلك أنّنا بصدد علم قديم قدم الحضارات الإنسانية، تداولته الأمم منذ فجر البشريّة وعرف خلال تاريخها الطّويل ممارسات متعدّدة ومختلفة.

ويُجمع المختصّون على اعتبار الرّحالة اليوناني هيرودوت [480 - 425 ق م] أب التّاريخ لأنّه أوّل من ترك أثرا مكتوبا في ذلك (ترك لنا هيرودوت كتاب «  Histoires » الذي يروي فيه رحلاته إلى مصر الفرعونيّة وفارس والشّام ويتحدّث فيه عن الصّراع القائم خلال القرن الخامس قبل الميلاد بين العالم المتحضّر والبرابرة).

في هذا الاتّجاه، ظهر في الثقافة العربيّة الإسلامية العديد من المؤرّخين أمثال الطّبري (صاحب كتاب تاريخ الأمم والملوك) وابن الكلبي والواقدي وابن الأثير والأزدي وعبد الرّحمان بن خلدون وغيرهم. ويعتبر ابن خلدون أوّل مؤرّخ عربي انتبه إلى الموضوع المتشعّب للتّاريخ وإلى بعده العقلاني. فكتب في المقدّمة معرّفا إيّاه ما يلي :"إنّ فنّ التاريخ هو من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الرّكائب والرّحال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على الإخبار عن الأيّام والدّول والسّوابق من القرون الأولى (...) وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها العميقة".

وتكمن المقارنة هنا بين الظاهر والباطن في الفارق بين أدب التاريخ (الإخبار وهو مجال الدّراسات الحضاريّة) وعلم التاريخ الذي ينظر ويحقّق بواسطة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية الرّديفة لمادة التاريخ.

 فالتأريخ الذي ينتجه المؤرّخون يمثّل إبداعا إنسانيّا لأنه إعادة لكتابة الماضي وبناؤه على ضوء الاعتبارات الحاضرة. وكثيرا ما يركّز بعض المؤرّخين على إبراز الحدث التاريخي (سقوط قرطاج أو ثورة علي بن غذاهم أو الحروب العالميّة ...) لكن هذا الحدث هو بناء يقوم به المؤرّخ نفسه. وصحيح أنّ الأوّلين قد تركوا لنا آثارا مادّية تخبر عن حياتهم (من كتب ورسائل وبناءات ورسوم)، لكن المؤرّخ الذي يعتني بهذا التراث المادّي والغير المادي يقوم بذلك انطلاقا من إشكاليّة معاصرة. فبالإضافة إلى عدم اكتراثه بكلّ الأحداث التاريخيّة، فهو يقوم باختيارات حسب اهتماماته آنذاك. كما لا يتمثّل عمل المؤرّخ في تجميع الأحداث ووصفها عن طريق الوثائق التاريخيّة المتوفّرة فحسب، بل أيضا في المجهود الذي يبنى من خلاله الحدث التاريخي بالاعتماد على الوثائق وبإتّباع المنهج العلمي.

وإن يتموقع الباحث في الماضي، فإنه يقوم باستمرار بعمليّة الذهاب والإيّاب عبر الذاكرة الجماعيّة. فلا وجود لحقيقة تاريخيّة مُعطاة إذ أنها تبنى، والحقيقة هي من خلال الإشكالات التي يطرحها المؤرّخ واعتمادا على الفرضيّات التي يصوغها لقراءة الوثائق المتوفّرة لديه. وتطرح هذه المسألة مشكل في غاية من الأهمّية وهو ابستمولوجي ويفضي بالتّساؤل حول الحقيقة التاريخية وأحاديّة معرفتها.

إنّ التاريخ بوصفه علما أساسيّا من بين العلوم الإنسانية (علوم المتغيّرات)، إن لم نقل محورها، يبحث في حياة الإنسان عبر الزمن التاريخي ومن كلّ الزّوايا. فهو في حاجة إلى أبراز الحدث التاريخي وإلى الوصف، لكن ذلك يكون كوسيلة للشّرح ولفهم ألغاز الماضي وفق تصوّر الحاضر الذي نعيشه، لأنّنا نتعامل مع الماضي وفق تساؤلاتنا الحاضرة، صعودا من النتيجة إلى الأسباب أو المسبّبات. وفي هذا الصّدد يعتبر مؤرّخ الحوليّات المشهورLucien Febvre   ˝أن استجواب الماضي يتمّ من منطلقات الحياة وإشكاليّاتها ˝. فالتّاريخ هو استعمال ثقافي للماضي (بالمفرد أو الجمع).

*      الرسم البياني الأول :

ترتبط عمليّة التّأريخ بإشكاليّة ما. فإذا لا توجد الإشكالية فلا يوجد التأريخ لأن البحث في حفريّات الذاكرة لا يكون عفويّا أو من باب الإمتاع والمؤانسة و التأمّل في الماضي لمعايشته. فالتاريخ مثلما يؤكّد على ذلك المؤرّخ الفرنسي المعاصرAntoine Prost ، "لا يجب أن يخضع إلى خدمة الذّاكرة، فحسب، بل إلى تحويلها، أملا في تطلّعات المستقبل وفي البحث عن المشروع الجماعي". فلا يدوّن التأريخ للتّاريخ، بل يخدم قضايا إنسانية وعلميّة.

  ولا بدّ وإن تتمّ عملية البحث في المعرفة التاريخية عبر استيعاب مغزى وجدلية المراحل  الحضارية الإنسانية الأربع : مرحلة التأسيس لإنسانية الإنسان، فمرحلة التأسيس للمدنيّة (أو إنسانية المجتمع) ثم مرحلة ممارسة المدنية و أخيرا مرحلة الكونيّة. وكل ذلك يكسب الباحث الحاسّة التّاريخيّة التي تمكّنه، عبر ضرورة ربط الماضي بالمستقبل (مرورا بالحاضر المعاش) من التّفاعل الإيجابي مع المادة المدروسة. 

ويكون ذلك جليّا عبر المسار الحضاري الإنساني ذي المراحل الأربعة التّالية :
   




* الرّسم البياني الثاني :

من تاريخ الزّعامات إلى تاريخ الشعوب :
القطيعة الأبستيمولوجية

1 – الفرضيّة الأولى : "الأبطال يصنعون التاريخ" وهذا ما يؤدّي إلى التاريخ العمودي، إلى التاريخ السّردي أو الأسطوري (التقليدي) الذي يروي البطولات والتواريخ ويكون تعليمه تلقينيا. 

          
                    
2 – الفرضية الثانيّة : "التّاريخ يصنع الأبطال" وهذا ما يؤدّي إلى التّحليل التّاريخي إلى النظر والتحقيق الخلدوني في دور الشعوب عبر مجرى الزّمن على امتداد المجال. هكذا يدخل صانعو التاريخ، الذين تناساهم مؤرّخو السلطة أو البلاط (مثلما بيّنت ذلك سابقا المدرسة الماركسيّة بالنّسبة للطبقات العمّاليّة)، في هندسة الذاكرة الجماعيّة وضمن مكوّناتها وتحدث القطيعة الإبستيمولوجيّة (في بيئة جنوب المتوسّط منذ مفتتح سنة 2011 مثالا) مع دور الزّعامات في التمثّلات الشعبيّة.

·       الرسم البياني الثّالث :

وتكمن العلاقة مع التاريخ في الحقيقة في كيفيّة الاستعمالات الثقافية لهذا الماضي، تطلّعا للمشاريع المجتمعيّة المستقبليّة، أي في طريقة بناء الهوية والعلاقة مع الآخر (أو الغيريّة) عبر القيم الإنسانيّة والمعرفة. ولابدّ أن تتم هذه العمليّة عبر وظائف المعرفة الثلاث التي يعبّر عنها هذا الرسم البياني :
 فهناك إذن عمليّة استجواب الماضي بهدف محاولة فكّ ألغازه. وهذا ما يطرح علينا جدليّة الزّمن وعلاقة الحاضر بالماضي وعكس ذلك. هنا تكون المعرفة التاريخيّة غير مجّانية وفي خدمة قضايا إنسانية وعلميّة. وهكذا يستجيب التأريخ لوظائفه الابستمولوجيّة التي تتمحور أساسا حول مواضيع : الهويّة والغيريّة والقيم المدنيّة والإنسانية والمعرفة.

* الرسم البياني الرابع :
إن إنتاج المعرفة التاريخيّة (العلميّة)، هي في الحقيقة عملية إعادة التفكير النّقدي في مغزى الزّمن والحدث عبر المجال. فهي عبارة عن ضخ نصيب من المنطق داخل الذاكرة الجماعية(injecter de la raison dans la mémoire pour la fertiliser)  مثلما يؤكّده André Ségal المؤرّخ المعاصر الكندي المشهور بأعماله في حقل الإبستيمولوجيا و التّعلّميّة.

وانطلاقا من هذه التّعريفات للتّاريخ، كعلم من العلوم الإنسانية، يمكن اقتراح هذه المقاربة وفق الرّسم البياني التّالي الذي يلخّص علاقة الزّمن بالمجال عبر الحدث أو فعل الإنسان (l’action de  l’homme)  والذي يمكن أن يؤدّي إلى قراءتين:

- الأولى تهمّ وصف حركيّة الرّسم وتؤدّي إلى الرّواية التاريخيّة
- الثانيّة تهمّ تحليل حركيّة الرّسم وتؤدّي إلى الدّراسة العلميّة للتاريخ، إلى النّظر والتّحقيق الخلدونييّن

هكذا تأخذ المقاربة التّاريخية (كعلم المتغيّرات) ، شأنها شأن مقاربة العلوم الأخرى (علوم قوانين الطّبيعة أو الثّوابت)، منوال هذا الرّسم البياني في التّحليل  والمعروف ب"الدّياقرام" (diagramme) الذي يبحث في فعل الإنسان في جميع المجالات عبر ثابتا الزّمن والمجال. ويعكس التّحليل التّاريخي، إذن، حركيّة الرّسم في كلّ الاتجاهات للبحث في السّببيّة انطلاقا من النّتيجة وخصوصا في المقارنات بين زمنين أو أكثر.


Mokhtar AYACHI
Professeur à l'Université de Tunis-La Manouba
Histoire de l’Éducation, Muséographie éducative & Didactique de l'Histoire
Membre du Conseil Scientifique du Musée National de l'Education (en France)

            © جميع حقوق الطبع و النشر محفوظة


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire