vendredi 6 janvier 2017

متحـف التّربيـة: مقاربـة تعلّميـّة للمتحفيّـة



  متحـف التّربيـة:
مقاربـة تعلّميـّة للمتحفيّـة


-       ما هو المتحف التّعلّمي أو كيف يمكن زيارة متحف تربوي بطريقة مغايرة ؟
-       ما العلاقة مع زمن التراث التّربوي ؟

1-   الزّمنيّـة المتحفيـّة( (temps muséographique بمتحـف التّربيـة :

ليس الزّمن بمتحف التربية خطّي فقط، بل إنه متجدّد البناء بين قطبيه اللاّمتناهيين السلبي والإيجابي وهو ذهاب وإيّاب مستمرّ في فضاء تعلّمي تفاعلي يجعل من المحتويات المعروضة به علامات أو إشارات ثابتة لتوجيه ذاكرتنا الجماعيّة باتّجاه بحثها عن إعادة تملّك الزّمن  المدرسي بأكثر وثاقة  أو بأكثر عاطفيّة.

إنّ زيارة متحف التّربية تعني معايشة الزّمن المسترسل بطريقة مغايرة مهما كان هذا الزّمن تاريخيّا أو حاضرا عبر تمثّلات مشحونة شعورا. فهو موقف يدعو باستمرار للمقارنة النسبيّة بين السالف والحاضر وكذلك بين جيل وآخر وعلاقاتهما بالمدرسة وبالحياة المدرسيّة. هذه الزيارة، عبر الزّمن، هي موجّهة بإشارات ثابتة تتكوّن من "ألف شيء وشيء" : من فنجان الحليب الدافئ الذي يـُقدّم للتلاميذ قبيل الدّخول إلى الأقسام، إلى المقلمات وكرّاسات التناوب وإلى كتيّب "1.300 إشكالية رياضيّة" وكتب القراءة الأخرى والمشاهد الطفوليّة للحياة التي تحتويها وإلى "دروس الأشياء" وغيرها كثير ... .

إنّ زيارة متحف التّربية تعني أيضا التسلّل بين الثنايا الصغيرة للذاكرة المدرسيّة بحنين وملامسة الذكريات الوافرة التي تطفو في كل زاوية من زوايا فضاءات العرض المختلفة. إنها أيضا نوع من إبراز تمثّلات الأشياء المدرسيّة والعلاقات الحميمة بين الأقران وببعض المربّين  القدامى الذين لا يختلف عطفهم على أبنائهم عن عطفهم على تلاميذهم. ففي كلمة واحدة، إن هذه الزّيارة فرصة لإعادة إحياء زمن مشحون بالقيم التربويّة، حيث يحلّ المربّي المحبوب محلّ الأب بل يكاد يرقى لمرتبة الرسول (ص) مذكّرا ببيت من قصيد أحمد شوقي:
             "قم للمعلّم وفّه التبجيلا  ***   كاد المعلّم أن يكون رسولا"
إنّ تقديس المؤسّسة التربويّة ومربّيها ومربّياتها وكذلك معارفها المدرسيّة تجتاز حقيقة الزّمن المُعاش في استمراريّته الثقافيّة.

هكذا يخطّ هذا الزّمن المدرسي، بهذه الطريقة، عبر إشاراته و علاماته الثابتة أو المكتوبة لمختلف الأبجديّات التي عرفتها إفريقيّة (أو تونس) منذ الفترة الفينيقيّة وإلى الفترة العربيّة الإسلاميّة فالمعاصرة، إلى  مضامين التّعليم التقليدي ثمّ مضامين التّعليم العصري، المدار الذي يـُنير توبوغرافيا ذاكرتنا الجماعيّة. هذا الزّمن التّربوي الذي يمكّن من اكتشاف ثنايا تضاريسها عبر مختلف الوسائط التعلّميّة المستعملة سالفا والمعروضة حاليّا صحبة جذاذات تعريفيّة برفوف بلوريّة.

2 – المقاربـة النشطـة للمتحفيّـة أو من التّجديدات التعلّميـّة :

إنّ المتحفيّة المـُعتمدة بهذا الفضاء تتوخّى مقاربة إبستمولوجية وتعلّميّة في مستوى العلاقة بالتراث التّربوي. فبمدخل المتحف، تستوقف الزّائر لوحة حائطيّة عملاقة وكأنّها تُسائله عن وجهته، فهي وسيطة تعلّميّة من نوع الرّسم السّريالي تضع المدرسة التونسيّة في ظرفيتها الحضاريّة التي تهمّ : علاقة تونس (إفرقيّة سابقا) بالبحر المتوسّط. إنّها ملحمة الثقافات التي ألهمت في مجالها الحضاري الأفكار الفلسفيّة لفرنان برودال Fernand Braudel – 1902-1985)). فهي تروي أيضا، بلغة الحروف المشفّرة وبواسطة لوحات وجذاذات حول الابجديات التي عرفت تداولا بإفريقيّة نوعا من سنفونيّة الكتابات والمعرفة ودور المدرسة كوسيلة لنشرها.

أمّا مرجعيّـات العلاقـة بالتراث التربوي فهي تخضع  لتـأثيرات فكريّـة عدّة منها المقاربة البرودوليّة للبحر المتوسّط كمجـال حضاري وكمساحة  ثقافيّة كبرى أو كملحمة الثقافات وكذلك لبعض أفكار فلسفيّة لهنري برقسـون (Henri Bergson – 1859-1941) الذي يربط داخليّة الديمومة الزّمنيّة بخارجيّة المجال الحضاري للتحرّر من زمن السّاعة  الحائطيّة بإملاْئها نسق حياتنا اليوميّة. هنالك أيضا آراء الفيلسوف بول ريكور  (Paul Ricoeur – 1913-2005)الواضحة والمتعلّقة بجدليّة الزّمن التّاريخي والإنساني الذي يخترق عبر الدّيمومة الطويلة لا فقط المعرفة والمؤسّسات المختلفة وأدواتها التعلّميّة التي أحدثت لتسهيل نشرها مثل الكُتّاب وما يحتويه من دلالات أحيانا رمزيّة أو أنطروبولوجيّة بل كذلك المؤسّسات العصريّة الحاليّة للتربية بوسائطها الافتراضيّة مثل السبّورة التفاعليّة والأنترنات أو الواب. إضافة إلى كلّ ذلك، استفادت هذه التجربة المتحفيّة التعلّميّة من التدريس والبحث في مجال تاريخ التّربية والتّعليم وكذلك إبستيمولوجيّة وتعلميّة التّاريخ المتواصلة منذ سنوات بمتحف التربية ذاته وبالمعهد العالي للتربية والتكوين المستمر وستتواصل أيضا بدار المعلّمين العليا.

3- العلاقـة النشطـة بالتّـراث التّربـوي :

عند تفحّصنا لمسار أو مدار الذاكرة الجماعيّة لبلادنا في علاقتها  بالمجال الحضاري للبحر المتوسط مع الحركة اللاّمتناهية للمسافرين أو الوافدين للأفكار والبضاعة (ذات المضمون الثقافي الضمني) منذ الفترة الفينيقيّة وإلى أيامنا هذه، لا تتراءى لنا إلاّ حقيقة واحدة وهي التواصل  الهادئ والثابت الذي يخترق القرون مكوّنا خلاصة ثقافيّة متوسطيّة بل كونيّة.

بالفعل، منذ إحداث مرفأ أوتيك (1101 ق.م) وظهور أولى الأبجديات بهذه المنطقة من العالم، مرورا ببعث المؤسّسات التعليمية القرطاجيّة (البونيّة فالرّومانيّة) ثمّ العربيّة الإسلاميّة من كتّاب ومدارس وجوامع إلى المدرسة العصريّة الحاليّة، لم تشهد المؤسّسة المدرسيّة بأشكالها المختلفة أيّ انقطاع بل تواصلا وامتدادا متينا لجذورها التّاريخيّة. أمّا المدرسة الحاليّة، ذات المحتويات التعليميّة والبرامج الأكثر عقلانيّة، حيث يتفوّق الرّقمي على الوسائط التعلميّة التقليديّة الأخرى والمـُمثّلة أيضا بأروقة العرض، فهي دائما بحاجة لإصلاحات أو إعادة تأهيل متواصلة لمواكبة التطوّرات أو التجديدات التربويّة على السّاحات الإقليميّة والدوليّة لتكون في مستوى التّرقّبات الاجتماعية والوطنيّة.

هكذا تعني زيارة متحف التربية التعرّف على فضاء شاسع ورحب مصمّم هندسيّا من أجل مُتحفيّة عصريّة لاستقبال روّاده عبر أروقة مفتوحة متعدّدة الوظائف.  كما تُصاحب الزائر في مختلف أجنحة المتحف المضاءة بواسطة إنارة طبيعية مقتطفات موسيقيّة من التراث العالمي تـُنسيه زمن السّاعة وتُدخله عبر مسالك التراث التربوي زمن الذاكرة في تواصله الهادئ. إنها أيضا فرصة لاكتشاف حقيقة مركّزة متعدّدة الأوجه تضمّ عديد الأزمنة التاريخيّة وعديد الأماكن أو المجالات الثقافيّة التي تكوّن خلاصة حضارات ذات السّت أبجديات (الفينيقيّة والإغريقيّة والاّتينيّة واللّوبيّة البربريّة والعبريّة والعربيّة) التي كانت متداولة ببلادنا على طوال 1.400 كم من سواحلها المتوسطيّة.

إنّ الزّائر المتأمّل لمسالك التّراث التربوي بهذا الفضاء التعلّمي للمتحف، يكتشف مزيدا من الموارد برواق المولتيميديا أو رواق "الميزانين" الذي يعلو المجال المركزي للعروض الدوريّة. هناك تـُشكّل الوسائط التعلميّة السمعيّة البصريّة، التي تعيد الاعتبار للأفلام أو الصورة الثابتة (Diapositives)  بأجهزة عرضها ثم آلات الفيديو والمحتويات الممغنطة أو الاسطوانات وآلات قراءتها من فئة 33 أو 45 دورة، جزءا هامّا من هذه الأدوات التي كانت مُستعملة للتدريس. وقد عوّضتها اليوم، وكتواصل بنفس الرّواق، الوسائط الرقميّة من أجهزة الكمبيوتر ( (Commodoreإلى السبّورة التفاعليّة، مرورا بفضاء الانترنات، ويكوّن هذا الفضاء، بفضل العروض التي يتمّ تقديمها به، مركز استقطاب اهتمام التّلاميذ وكذلك مختلف الزّائرين من الشرائح العمريّة الأخرى. ويمكّن فضاء المولتيميديا هذا روّاده، عبر الأنشطة الثقافيّة المقدّمة من ترويض استمراريّة الزّمن التّربوي بالمسك بطرفية وبجعل الماضي  زمنا حليفا للمستقبل عبر مشاريعه التجديديّة.

ختاما، إنّ زيارة المتحف التعلّمي (أو متحف التربية) تجعل بعض الزّائرين المدركين للبعد الإبستيمولوجي التّاريخي يشعرون أحيانا وكأنّهم يصعدون إلى عالم خيالي أو شاعري لتذوّق قصيدة جميلة أو لتأمّل لوحة من لوحات بيكاسو أو سالفادور دالي... فهي ليست فرصة للاستسقاء من ينابيع مختلف التمثّلات فقط، بل أيضا للاستلهام والتأمّلات الأخرى الخلاّقة. إنها كذلك إثارة للحساسيّة (sensibilité) التاريخيّة عبر الجدليّة الثلاثيّة  للماضي والحاضر والمستقبل : ثلاث لحظات أو أزمنة تنسجم في سنفونيّة عبر تونس المتوسطيّة، أرض الكتابات والمعارف.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire